أثَارَ تصريح عضو المجلس السيادي الفريق ياسر العطا، بأن وزير المالية السابق إبراهيم البدوي تقدم بطلب لبيع شركة جياد لتسديد رواتب ثلاثة أشهر للحكومة، المزيد من الشكوك التي ترقى بحسب مراقبين لمرحلة اليقين بأن الحكومة أدخلت نفسها في ورطة يصعب الخروج منها، وهي الزيادات التي أقرّها “البدوي” بنسبة تفوق 500%” دون إيرادات كافية.
وبحسب ما نقلت “الانتباهة” عن العطا، لم يَستبعد عضو السيادي أن يطلب البدوي بعدها بيع دبابات لتسديد الرواتب وأعلن أن الحكومة لا تدفع للمُؤسّسة العسكرية سوى الرواتب فقط.
وسارع البدوي لنفي حديث العطا، بحسب ما نقلت عن “النورس نيوز” بشكل قاطعٍ، مُطالبته ببيع شركة جياد للإيفاء بالفصل الأول للعاملين في الدولة.
وكشف البدوي بحسب المصدر، عن اجتماع دعا إليه من قبل العطا كان متعلقاً بمناقشة ملف شركة زادنا بحضور القيادي بالحرية والتغيير أحمد ربيع وإدارة الشركة، موضحاً عدم مشاركة وزراء القطاع الاقتصادي الآخرين في الاجتماع، وتركّز الاجتماع حول حوكمة الشركة وولاية وزارة المالية بصورة عامة ولم يتطرّق لمسألة بيع أصول شركة جياد، مؤكداً عدم معرفته بقيمة وأصول جياد حتى يتحدث بهذه الدقة عن أن بيعها سيقابل التزامات دفع رواتب ثلاثة أشهر من تعويضات العاملين.
وحين إقرار زيادة الرواتب قبل أشهر، اكد البدوي ان تغذية زيادة الرواتب ستتم من الموارد الذاتية وهي الضرائب والجمارك وقيمتها 158 مليار جنيه وتشكِّل 27% من نسبة الإيرادات، ووصفت تلك التقديرات بـ”المُحافظة جداً”، حيث توقع أن نوفر من الجمارك والضرائب أكثر من المبلغ المذكور، ولكن توخياً للتقديرات المُحافظة، قال إن المبلغ الذي يتم تحصيله من الجمارك والضرائب هذا العام سيكون 158 مليار جنيه، مشيراً الى هنالك ما يُسمى بإيرادات ذاتية أخرى وتمثل 254 مليارا.
وغض النظر عن صحة حديث العطا من عدمه، فالثابت أن الحكومة ووزارة المالية باتتا في وضع لا تحسد عليه للإيفاء بالفصل الأول، وما يزيد المهمة صعوبةً، تراجع حجم الإيرادات العامة بصورة غير مسبوقة بتوقُّف بعض الصادرات الاستراتيجية مثل الفول السوداني والسمسم، وتدني صادر الماشية لمُستويات تفوق 90% من المُعدّلات السنوية، كما أن صادر الذهب رغم انسيابه إلا أن أرقام الصادر والعائد لا تزال متدنية بسبب تراجُع الإنتاج في مناطق التعدين التقليدي.
كما تعاني الحكومة بالفعل في تأمين واردات البلاد من السلع الاستراتيجية، فتطاولت أزمات الوقود ونقص القمح خاصة بالولايات، كما أن مشروع الدعم النقدي المُباشر بدأ في التعثر، حيث لم تتم تغذية حسابات المواطنين للشهر المنصرم.
وما يؤكد فرضية أن استمرارية الدولة في الوفاء بهذه الرواتب في مواقيتها، بات أمر الرواتب محل شك وهاجساً يؤرق وزيرة المالية المكلفة هبة محمد علي، بعد ظهور شكاوى من الولايات بعدم سداد الرواتب لشهر مايو الماضي، ما يؤكد هذه الفرضية هو أن الوزيرة المكلفة ناقشت في اجتماعها برؤساء ونواب الوحدات التابعة لوزارة المالية، كيفية استحداث طُرق جديدة لفتح المواعين الضريبية وزيادة الإيرادية لمقابلة رواتب العاملين بالدولة، وأمّنت الوزيرة على ضرورة عمل اجتماع دوري مع الوحدات التابعة للوزارة لمُتابعة خُطة العمل بصورة منتظمة.
وبمُحاولة استقصاء أثر العجز في الرواتب وتأثيره على المشتروات الحكومية خاصة المستوردة، سألنا المحلل الاقتصادي قاسم الصديق، هل اأمر يتعلق بمضاربات؟ الذي أجاب بالنفي.
وقال الصديق لـ”الصيحة”، إن المضاربات لا ترفع الدولار بهذه النسب الكبيرة ولماذا المضاربات أصلاً وليست عندنا بورصة للعملات الأجنبية الذي يرفع الدولار في السودان الطلب الزائد عن العرض وبنسب معقولة، أما الذي يحصل اليوم أن الحكومة تشتري بما لديها من تريليونات مطبوعة جاهزة من العملات السودانية دولارا من السوق الأسود، حقيقة لم يعد السوق أسودَ بل مُوازياً وحقيقياً للسوق المعترف به من الحكومة وهو السعر التاشيري والسوق الموازي هو السوق الحقيقي والذي تتحدّد فيه قيمة الجنيه السوداني عبر قانون العرض والطلب، وفي بعض الأحيان لا تكون أسعار الدولار حقيقيّة في مثل شراء الحكومة لكميات كبيرة من الدولار، والخطر الذي يتمثل في هذا النوع من المشتريات ان العودة للأسعار الطبيعية للدولار يبقى أمراً صعباً وبعيد المَنال بعد انتهاء عملية الشراء الاستثنائية، ربما ينزل سعر الدولار قليلاً، لكن يبقى مرتفعاً جداً، حيث يمثل طموحات أصحاب الأرصدة الدولارية في الحصول على سعر عالٍ لعملاتهم الأجنبية، ومن هنا يتحدد السعر في السوق الموازي.
وظل وزير المالية السابق “البدوي” والمكلف الحالي “هبة” يركزان في حديثهما على قضية الاستفادة من المؤسسات التي اصدرت فيها لجنة ازالة التمكين قرارات ولكن تلك قضية طويلة تحتاج الى وقت كبير واجراءات تقاضي واستئنافات لحين إثبات أنها آلت للدولة ليتم التصرف فيها إما لتشغيلها أو خصخصتها أو بيعها في السوق المالية كأسهم أو غيرها من الوسائل الأخرى، وبعد ذلك يُمكن أن تحقق عائدات للدولة، لكن هذا الأمر لا يمكن الاعتماد عليه الآن في تغذية الرواتب كما ذكر وزير المالية السابق ابراهيم البدوي، وشَدّدَ على ضرورة البحث عن مخرج لزيادة الرواتب لأنه لا يُمكن الرجوع عنها، ولكن لا بد من البحث لموارد حقيقيّة تموِّل الموازنة العامة للدولة دون المساس بمعيشة المواطن.
وبالسؤال عن لماذا فعل الوزير هذه الزيادة التي أثارت الجدل رغم أنها أسعدت العاملين خاصةً المعلمين، لجهة ضعف الرواتب التي كانوا يحصلون عليها في السابق، ولماذا فعل الوزير هذه الزيادة رغم النصائح الاقتصادية.. يرى مدير ديوان الضرائب السابق د. عبد القادر محمد أحمد أن الوزير كأنما اُضطر في ذلك اضطراراً أي وكأنه كان مجبوراً، وفسّر بقوله إنه حينما راسل الوزير، بعد أن طلب منه بعض الخبراء تقديم رؤية حول الايرادات، وابلغه بأنّ جهات زادت رواتبها بنسبة 50% و100%، فأبدى الوزير امتعاضه، وقال عبد القادر: “فكيف يوافق على زيادة تفوق 500%؟ ويرى أن الزيادة الخيالية التي تمت في الرواتب كانت بمثابة رشوة سياسية لكسب التأييد، مُعتبراً أنّ وزارة المالية أصبحت الآن وزارة خزانة فقط مهمتها البحث عن تمويل الرواتب.
ويشير خبير الضرائب، مستشار أصحاب العمل في الشؤون الضريبية عبد القادر عثمان، إلى أنّه ليس المطلوب حالياً زيادة المواعين الضَريبية، بل المطلوب تَوسيع المواعين الحالية لزيادة العائد المادي منها لتوسيع التغطية الضريبية لتشمل دخولاً عديدة لا تُخضع حالياً للضريبة إما لأسباب قانونية أو إدارية، ويكشف أنّ القطاع غير المنظم في الاقتصاد السوداني والذي توسّعت إيراداته مؤخراً بسبب التضخم لا يُخضع أغلبه للضرائب، كما أن هناك العديد من الإعفاءات الضريبية التي مُنحت لعدد من الجهات في السابق، وشدد على ضرورة إلغائها فوراً، كما نبه إلى إعادة النظر في فرض الضريبة على الشركات الزراعية وشركات الإنتاج الحيواني ومنتجات الألبان وجميعها ملغية حالياً من الضرائب، كما أشار إلى إمكانية إعادة النظر في فئات الضريبة على الدخل، الثابتة حالياً وبنسبة 15% وجعلها تصاعدية ترتفع مع زيادة الدخل.
وطرح بعض المقترحات للإصلاح الضريبي العاجل لتحقيق العدالة وزيادة الايرادات، حيث اقترح اعادة النظر في إمكانية فرض ضريبة الثروة وذلك على الثروات الظاهرة من عقارات وسيارات ومزارع خاصة وخلافه، على أن يكون لها حد إعفاء عالٍ وفئات مُتدرجة، وإعادة النظر في جدول فئات ضريبة الأرباح لتكون تصاعدية تصل إلى 50% في الدخول العالية مع إمكانية فَرض ضريبة إضافية على الدخول العالية غير الاعتيادية.
ويُؤكِّد الخبير الاقتصادي د. محمد الناير، أن توسيع المواعين الإيرادية أمر مهم جداً، ولكنه يشير لضرورة أن يعتمد على التوسع الأفقي وليس الرأسي، وبرر ذلك لأن التوسع الأفقي لا يؤثر على المواطنين بصورة أساسية خلافاً للتوسع الرأسي الذي يؤثر بصورة كبيرة وارتفاع معدل الضريبة وصعوبة الأمر بالنسبة للسداد، موضحاً لـ”الصيحة” أن الدولة انتهجت سياسة مغايرة تماماً لذلك مع إجازة موازنة العام 2020م، حيث تمت زيادة حجم الضرائب رأسياً وإجازتها مع الموازنة، إلا أن الناير أكد أنه لاحقاً اُضطرت وزارة المالية لتجميد هذه الزيادة بقرار من وكيل وزارة المالية لأنها لم تدرس بشكل جيد ولها آثار سالبة، وبالتالي تم تجميد هذا الأمر ولم يتم الإفصاح عن ما الذي يتم في هذا الاتجاه، مُضيفاً أنّ اللجنة العليا الاقتصادية أصدرت قراراً برفع الضريبة على الاتصالات من 35 % إلى 40%، وهو ما رأه الناير أن هذه أيضاً تُشكِّل عبئاً كبيراً جداً على المستهلك، لجهة أنه متعلق بالإنترنت، مبيناً أن القضية في ذلك ليست قضية اتصالات بلا معنى ولا قيمة، بل قضية إنترنت وتطور تكنولوجي والآن توجه الجامعات نحو التعليم والصحة والحكومة الإلكترونية، وانتقد الناير الأمر وقال “لا يُعقل أن تُلقي الدولة دائماً بالعبء على المستهلك النهائي”، وتابع: “فالقضية ليست محادثات كما كان في السابق، لكن تعامل مع الإنترنت في كل مناحي الحياة”، ويشير الناير إلى أن الدولة ظلت دائماً تقول إن الإيرادات الضريبية تشكل بين 6 – 7% من الناتج المحلي الإجمالي، ومعظم الدول ما بين 15 – 20% في الدول المحيطة، وأكّد أنّه لا غضاضة في ان تصل في السودان إلى 15 – 20% وأن تعالج قضايا الرواتب، ولكن شريطة ان تُحصّل الضريبة بحقها وأن تتوسّع المظلة الضريبية وتشمل كل الذين يتهرّبون من الضريبة، وان توقع عليهم أقصى العقوبات اللازمة، وانتقد لجوء الدولة دائماً للحلول السهلة والزيادة الرأسية وإلقاء تعقيدات وأعباء كثيرة على المواطن.
تقرير – جمعة عبد الله
الخرطوم: (صحيفة الصيحة)