ماذا خسرت الفترة الانتقالية من الفشل في تشكيل المحكمة الدستورية.. بقلم دكتور ابوذر الغفارى بشير عبد الحبيب
السودان اليوم:
تجربة المحكمة الدستورية المستقلة عن السلطة القضائية تجربة حديثة نسبياً في السودان دخلت لأول مرة بموجب دستور 1998 الذي صدر في ظل نظام الانقاذ، وكان العمل قد جرى طوال العهد الوطني على وحدة النظام القضائي بما فيه الدائرة الدستورية التي تعد أحد دوائره وليست محكمة مستقلة عنه. ورغم حداثة العهد بتجربة المحكمة الدستورية في النظام القضائي السوداني، وغرابتها عنه غيره من النظم التي أخذت بالنظام الفدرالي كالولايات المتحدة الأمريكية والهند وجنوب أفريقيا، إلا أنها استقرت كتجربة هجينة، ثم جات اتفاقية السلام الشامل الموقعة بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان عام 2004 لتؤكد هذا الموقف، فتضمنت نصاً أوجب استقلالية المحكمة الدستورية، وتم عكس هذا الموقف في دستور 2005.
سارت الوثيقة الدستورية على نفس الطريق، فأكدت على استقلال المحكمة الدستورية، إلى درجة النص على بعض مهامها الأساسية في الوثيقة نفسها، فذكر البند (1) من المادة 31 (المحكمة الدستورية مستقلة ومنفصلة عن السلطة القضائية تختص برقابة دستورية القوانين والتدابير وحماية الحقوق والحريات والفصل في النزاعات الدستورية). هذا يعني أن الوثيقة الدستورية قررت أن تعهد بهذه الصلاحيات للمحكمة الدستورية وحدها وعدم اختصاص القضاء العادي بالفصل فيها، بما يوجب أن تكون المحكمة الدستورية حاضرة لممارسة هذه الصلاحيات. وقد أوضحت الوثيقة الدستورية السبيل لتشكيل المحكمة الدستورية من خلال مجلس القضاء العالي، الذي بدوره لم يتم تشكيله.
انتهى أجل قضاة المحكمة الدستورية في يناير 2020، ولم يتم التجديد لهم، وكان من الضروري أن توجد خطة واضحة المعالم لإعادة تشكيل المحكمة الدستورية حتى يمكن تجنب الدخول في فراغ عريض، بحجم أهمية المحكمة الدستورية في مثل الظروف التي تمر بها البلاد. وكان يمكن للمحكمة الدستورية أن تلعب دوراً أساسياً في تصحيح المسار الديمقراطي وتحسين بيئة العمل السياسي والإداري والحفاظ على الحقوق الأساسية ونظام العدالة خلال الفترة الانتقالية، فوجود المحكمة الدستورية في الظروف العادية أمر ضروري لا غنى عنه، إلا أن أهميته تتعاظم في فترات الانتقال السياسي والمنعطفات الدستورية، باعتبار أن المحكمة الدستورية هي الضامن الأساسي لعدم انتهاك الحقوق الأساسية للأفراد والجماعات بسبب الاندفاع الثوري ، أو تجاوز القواعد الدستورية التي تم التوافق عليها بين مكونات النظام السياسي. وقد أدى عدم تشكيل المحكمة الدستورية إلى ضمور في الأداء المؤسسي واختلال في ميزان العدالة وتراكم في الاجراءات المنتظرة، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال مسح سريع لما كان يمكن أن تقوم به المحكمة الدستورية خلال الفترة الانتقالية ومن ذلك:
1- التصدي للمخالفة الدستورية البينة بعدم تشكيل المجلس التشريعي خلال الفترة التي حددتها الوثيقة الدستورية وهي (90) يوماً من تاريخ التوقيع على الوثيقة. وتصرمت ثلث الفترة الانتقالية دون أن يتم تشكيله أو يلوح في الأفق ما ينبي بقرب الاسراع في تشكيله، وهذا بدوره غيب العين الرقيبة على الأداء الحكومي، وأثر بصورة مباشرة على عملها، فجعل مواجهتها للتحديات التي تواجه المواطن في حياته اليومية تفتقد إلى الحيوية والعلمية والكفاءة المطلوبة. فالنظم المؤسسية بسلطاتها الثلاث التنفيذية والقضائية والتشريعية ليست وحدات مستقلة تمام الاستقلال، وإنما هي جسم واحد يعمل في تناغم، ويؤدي كل جهاز دوره في تقديم الخدمات المطلوبة منه، فإذا ما غاب أو اختل فيه جزء ترك أثره سلباً على بقية الأجهزة الأخرى.
2- ثار غبار كثيف حول دستورية بعض الصلاحيات التي تضمنتها بعض التشريعات التي صدرت خلال الفترة الانتقالية، وعلى سبيل المثال بعض صلاحيات لجنة إزالة التمكين المذكورة في التشريع المنظم لأعمالها، ومن بينها مصادرة الأموال، وهي صلاحية يثور زعم كبير بعدم امكانية ممارستها إلا من قبل محكمة مختصة وفقاً للوثيقة الدستورية، التي حددت السبيل لمصادرة الأموال الخاصة ، فنصت في مادتها الواحدة والستين على عدم مصادرة الأموال الخاصة إلا بموجب حكم قضائي. وقد أدى عدم تشكيل المحكمة الدستورية إلى إرجاء الفصل في هذه النقطة، بدلاً عن حسمها مبكراً جداً ، الأمر الذي يضع كثيراً من قرارات لجنة إزالة التمكين على محك الخطر ويهدد بإبطال بعضها مستقبلاً، وهو أمر سيكون ثمنه كبيراً في حال صدور قرارات عن المحكمة الدستورية بعد تشكيلها على غير ما ترى لجنة إزالة التمكين.
3- أدى عدم وجود المحكمة الدستورية إلبى الابطاء في تنفيذ مطلوبات الفترة الانتقالية التي أوضحتها الوثيقة الدستورية بما في ذلك الاسراع بتقديم المتهمين من منسوبي النظام السابق ومدبري الانقلاب إلى المحاكمات العادلة، فقد تم التحفظ على عدد منهم دون تهم محددة على ذمة اكتمال التحقيقات وامتدت فترات اعتقال بعضهم، إلى المدى الذي تثور معه مزاعم بعدم اتباع معايير حقوق الانسان المعتمدة دولياً في فترة ما قبل المحاكمة. مما يجهض أهم شعارات الثورة وهي تحقيق العدالة ، على الكافة.
4- خلق عدم وجود المحكمة الدستورية حالة من الاحباط العام من الأداء العدلي ووسمه بميسم الضعف، فعلى سبيل المثال فإن المحكمة الدستورية هي المنوط بها نظر الطعون ضد أعمال مجلس السيادة أو مجلس الوزراء في حالة أن يتعلق الطعن بأي تجاوز للنظام الدستوري أو الحريات أو الحرمات أو الحقوق الدستورية. وهي صاحبة الحق في رفع الحصانة الاجرائية عن أعضاء مجلس السيادة أو مجلس الوزراء أو ولاة الولايات أو حكام الأقاليم لاتخاذ الاجراءات الجنائية ضدهم، وهذه الصلاحيات الحصرية لازمة لا يمكن الاستغناء عنها في فترات الانتقال السياسي. وقد رفعت بعض القضايا التي تتعلق بهذه الصلاحيات ولا تزال قيد النظر أمام المحكمة الدستورية المنتهي أجل قضاتها، مما يوقف الاجراءات الخاصة بها.
خلق عدم وجود محكمة دستورية شعور بالتحرر من الرقابة الدستورية على أداء الجهاز التنفيذي والذي يمثل بوضعه الراهن جسماً قابضاً على السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية وبعضاً من السلطة القضائية، فهو شبيه بالملك الفرنسي لويس الرابع عشر حين وقف أمام برلمان باريس مذكراً بصلاحياته في وجه الذين ارادوا الانتقاص منها قائلاً: (أنا الدولة والدولة أنا) لكنه تراجع عن هذا القول وهو على فراش الموت وأبدى أسفه حين أدرك من التجربة أن الدولة هي الباقية فقال “أنا سأذهب أما الدولة فستبقى دائما”
أبوذر الغفاري بشير عبد الحبيب
The post ماذا خسرت الفترة الانتقالية من الفشل في تشكيل المحكمة الدستورية.. بقلم دكتور ابوذر الغفارى بشير عبد الحبيب appeared first on السودان اليوم.