يظلُ صوت حنان النيل، الرزين، الأوبرالي، المتسامي في حالاته العديدة، والمنثال كقطرات كوثر في حلق تائهٍ وسط العتامير، والمطواع لإرادة حنجرتها، تحركه أنَّا شاءت، وكيف شاءت؛ يظل هو (الفرح المهاجر) وإمام إبداعنا الغائب، مذْ قررت الدخول في كهف العزلة الاختيارية، مقررةً -بكل فداحة- إنهاء أحد أجمل المشاوير في تاريخ الأغنية السودانية، في كافة مستوياتها، وجميع تخلقاتها.
والدي -مدَّ الله في أجله- كان مفتوناً بإنشاد حنان لقصيدة (يا راحلين إلى منى بغيابي) التي سأعرف لاحقاً إنها للشيخ عبد الرحيم أحمد علي البرعي، وعليه فإن الصوت الحنين المتشرب دون شكٍ باسم صاحبته، صحبني باكراً جداً، وجعل بي حنيناً يشدني بقوة ثقب أسود، للمشاعر المقدسة التي لم أكْ أعرف لها كنهاً، ولا كنت أدري ما الحج، وما أركان الإسلام، ولكن مع ذلك عرفت شيئاً واحداً: هذا الصوت إنما يأخذني إلى مواطن بعيدة، هي أحق بأن تزار، وأن توصل.
تتبع هذا الصوت سيقودني في مرحلة الشباب تحديداً، إلى كوثرٍ من الأناشيد المنسوجة بأيدي الجن، ولأجلها تصحو الربى والوهاد، وتسترقص البيد ورمالها.
لنبدأ بالمدخل الأسطوري لأيقونتها الفرح المهاجر، (يا رزينة).. واسألكم بالله: هل قابلكم هكذا وصف للمحبوبة؟ مؤكد أنه شي نادر، ولا يشبه إلَّا وصف (كنداكة) التي تزين جيد النسوة في سودان ما بعد البشير.
هذه الرزانة يمتد إسدالها ليغطي كامل تجربة حنان النيل الغنائية، ويجرجر معه (كم صقير وحدّي)، نحو الأراضين، ليمنحنا التوازن المفقود، بعد عودتنا من معراجٍ صوتها وهو يحملنا عنوة إلى سماوات الإبداع.
ولم أعرف صوتاً ينقلب إلى حالة وجدانية إلا صوتها. سيشملك الحزن وفداحة الفقد، متى سمعت (خسارة يا قلبي الحزين)، وترجع متأبطاً الفرح في طيات الاعتذار (ما عدت قادر انتظر)، وستنبت بداخلك رغبة لتنضم إلى نفير وشباب شارع الحوادث متى سمعتها تغني (لو أعيش زول ليه قيمة)، ولن تتواني عن تقبيل جبهة والداك متى سمعتها تدوزن (أبوي شعبتنا روح آمالنا .. ضو البيت)، وحتماً (ستبق) كل كهارب ومصابيح الأمل المطفأة بداخلك متى غنتك (لا بد يوم باكر يبقى أخير).
سيظل صوت حنان النيل: الأدرينالين الذي يحول دون استكانتا في عز المعركة، وصباحات الشوق حين تأخذنا المهاجر، والطاقية الخضراء التي تتقافز من رأس درويش عبثت به الأشواق في خضم مولد، والكتف الحانية التي نتكئ عليها وقت مُصاب، وللمفارقة هو هو ذاته الصوت الذي يأمرنا بالانتظار لحين اكتمال أحزاننا فراشةً كاملة، ومن ثم إطلاقها ببهرجها وتلاوينها في بلاد النور، كعلامةٍ وإرهاصٍ للخير القادم لا محالة.
الرزينة، حنان النيل، ما تزال الخرطوم بدونك (ضهباني وتفتش لي واحات عيونك)، وما تزال متيقنة بأنه (كله بمضي.. وكلو بالأيام بيروح)، ما عدا صوتك الذي يسكن حناجر أهلوها، ويدوي في كامل جنباتها، كهتاف جمهور جذلٍ بعودة فريقه بالنتيجة، من بعيييييد.
إذاً، هل لي بأمنية في آخر هذه المقالة، بالطبع لي واحدة، وهي عودة (الفرح المهاجر)، وأوبة (النيل) إلى بلدتنا، و(الحنان) إلى ضفتيه، فقد تعبنا من السدود التي تعترضنا بلا توقفٍ، حتى عزت علينا النهضة، فبتنا في حاجة ماسة لصوتها، وحده صوت حنان النيل، يُعزينا.
The post مقداد خالد: حنان النيل.. ما عدا صوتها “كلو بمضي” appeared first on باج نيوز.