الانتباهة اون لاين موقع اخباري شامل
بقلم: صبري محمد علي (العيكورة)
مداخل عِدة يُمكن أن نتناول عبرها علاقة أهل (العيكورة) بسوق المسلمية منذ قديم الازل فبعضُ كُتب التاريخ أشارت الى أن موقع القرية الحالى على الضفة الغربية للنيل الازرق كان يُقال له (مورد المسلمية) ولعل هذا الاسم كان ما قبل قيام مشروع الجزيرة بإعتبار أن المسلمية لم تكُن بحاجة لورود الماء من النيل بعد شق قنوات المشروع . و ظللنا نسمع من أجدادنا ونحن صغار أن (حوّاشاتهم) بجوار المسلمية وأن مكتب إدراتها مكتب (النديّانة) المجاور لها ، علاقات قربي وصداقات كثيرة بين أهل المسلمية و أهل العيكورة قد لا أستطيع أن أفك طلاسمها بدقة هل هى قرابة رحم أم صلات توطدت عبر المشروع أم أنها كانت عبر السوق والتجارة حقيقة لا أفهم ولكن ما لا أجهله أن محمد علي محمد الماحي الملقب ب (أبوجزمة) هو جدنا وإبنه محجوب هو خالنا وأخته بخيته هى خالتنا وأن خالنا عوض الله ود الطاهر قضي بالمسلمية ردحاً من الزمن مسؤولاً عن تشغيل وصيانة وابور المياه وأن جُل طلاب العيكورة حتى اوائل السبعينيات كانوا يدرسُون المرحة الوسطى بالمسلمية أسوة بالقُري المجاورة وما أذكره أنني قد جلستُ لإمتحان الشهادة الابتدائية من مركز المسلمية، وما لا يُنسي لنا ونحنُ صغاراً أن لوري الخال (قرّاض) كان يصدحُ كل اسبوعين آتياً بالطلبة والطالبات كل خميس وعائداً بهم الى المسلمية عصر الجمعة .
كان أبي يجلسُ بيمينى و أنا أقود السيارة (الكريسيدا موديل 80) الزرقاء متجهين الى سوق المسلمية ، كانت الساعة لم تتجاوز الثامنة صباحاً ، كان أبي يُكثرُ الالتفات والترقُب أكثر منى عندما هممتُ بدخُول (ظلط) الخرطوم مدنى فهو سائق محترف و انا غادرته مغترباً لا اعلم شيئاً عن (السواقة) وعدتُ إليه مُمتطياً (الكريسيدا) فبالطبع الأمر مُدهش ويثيرُ مخاوفه عن مقدرتى على القيادة السليمة ، شعرت أنه أخذ نفساً عميقاً بإرتياح عندما نزلتُ من الطريق القومي عند قرية (ودبلال) مُتجهاً غرباً ، الطريق مُعبد بلا اسفلت كان أبي يُتابع ولا يتحدث ويُراقب كيف أتصرفُ مع الحُفر و(المُويات) المُتسربة من أبوعشرينات ولعله رأي ما طمئنه فأنزل الزجاج قليلاً وبدأ يتجاذب معى أطراف الحديث عن المشروع زمان والخير الذي كان ونحنُ على تخوم حلّة عبد العزيز حدثنى عن خيّاط ماهر بها يقالُ له (النصري) وبإمكانى أن أفصّل عنده قبل إنتهاء إجازتى ، عبرنا قضيب السكة حديد بتمهل أما دجاجة كانت مذعورة تلتقط صغارها من أمام العربة بجناحيها تارة وبنقرها على صغارها تارة أخري ، هدأت من السرعة حتى هدأ روعها وإبتعدت بصغارها (سبحان الله) قالها أبي يكررها ، كان علينا أن نعبر (الميجر) الرئيسى عبر كُبرى ضيق تظلله الاشجار على الضفتين اسفله البوابات الحديدية التى يتحكم بها فى كمية الماء المُنسابة فتُحدثُ صوتاً عالياً لخرير المياه المضغوطة كنّا نسمية (كُبري الشلالة) لعلُ المُسمي جاء من صوت الماء (شللل) ، جمع والدي رجليه يسألنى إن كان بمقدوري أن أعبر بالسيارة أم أنزل له ليقودها هو فطمأنته أن الأمر بسيط ثم عبرنا وهو مُشرئبٌ بعُنقه ناحية الزجاج الأمامى بقلق (ما شاء الله) قالها بعد أن غادرنا الكُبري ، طلب منى أن (نغشي) إبن أخته المُحاسب بقسم المسلمية حسن أحمد محمد صالح بسراية المشروع لم تكن ببعيده كان يصفُ لى المدخل ، تناولنا الشاي داخل البرندة الواسعة والخدمات الراقية والخُضرة تُحيطُ بنا من كُل جانب يوم أن كان للجزيرة مشرُوعٌ وهيكلة .
(خالى أصبرو شوية حاج عبد الغفار بكون لحمتو لسّه ما وصلت) قالها حسن عندما هَمَمنا بالانصراف لاستكمال المُشوار الى السُوق و حاج عبد الغفّار هذا هو والد زميلنا مجدي (بحنتوب) أشتهر بجودة الذبيح والكرم البازخ فى سوق المسلمية وله زبائن من وُجهاء القُرى المُجاورة و (أفندية) مشرُوع الجزيرة . طلب حسن أن نترك سيارتنا أمام منزله ونستغل (بوكس البورت) معهُ لانه يرغبُ فى تعبئته بالوقود ولشراء أغراض كان يحتاجُها ثم قال وهو يُعدّلُ من وضع عُمامته امام المرآة لزوجته (آمنه) وهى بنت عمتنا حينما كانت تهمُ بحمل الكبابى الفارغة من أمامنا ، أن تُسرع بتجهيز الفطور ريثما نعود من السُوق فطمأنتهُ بجاهزيتها مُذكرةً إياه أن لا ينسى (السنكيت) و(أم فتفت) (عشان) خالى قالتها ضاحكة وكأنها تستغل زيارتنا لمزيد من (دنّكلة) الفطور .
سوق المسلمية كان وما زال هو يومي الأحد و الأربعاء من كُل أسبوع أوقفنا السيارة بجوار محطة بنزين بعد أن سلّم (حسن) عليهم بأسمائهم ثم دخلنا السوق راجلين . (يا زول حرّم جدع إنت ما بتعرف البهائم والاّ شنو؟) أول ما تنامى لمسامعنا من فسحة واسعة فى صدر السوق من الجهة الجنوبية الشرقية مكتظة بكل ما يُباع و يُشتري ، قبيل الدكاكين و زنكى اللحم والخضار والمطاعم ،فهُنا يباع كل شي ويُشتري ، الخراف والعجول وبكاسي العيش و(الفريشة) من الكنابي المُجاورة يأتون بالويكة والكبكبية والعدسي والبصل والدخُن ويعودون بالسكر والشاي والبن واللحم ، تركت أبى وحسن يواصلان مسيرهما نحو زنكي اللحم و الخُضار حيثُ حاج عبد الغفّار وظللت أمارسُ هوايتي المُفضلة بالتجُول بالسُوق والوقوف أمام كل ما هُو محلى وطازج وطاعم ، نساء الكنابى كانت لهن الغلبة فى السوق ، البساطة فى كل شي حتى فى الحساب يُمكن أن تطلب منك إحداهُن أن تحسب لها ما أستلمته من زبون آخر. سوق به كُتلة نقدية مُحترمة يتم تداولها مرتين كل أسبوع كانت تُحدثُ توازناً إقتصادياً مُريحاً لو إستوعبه الناس لما غادروا الجزيرة مُطلقا. فكلها من خيرات الأرض ينتجونها ولا يخلوُن بالدورة الزراعية للمشروع فمن (التقنت) و(ضهر) الجدول وشِعبة الراكوبة يُنتجون العدسي والكبكبى والثوم و الدُخُن والويكاب والجزر ويربون الحملان (الوتيش) فأين ذهب هذا الفهم؟ لم تتغير الارض ولم تتبدل الماء ولكن نحن من تغيرنا . ولعى وعشقى فى البامية الخضراء الناشفة والويكاب أعرف أصله وفصله منذ أن كُنتُ صغيراً والدخن الاصفر والعدسي إبتعت للاسرة وللاصدقاء بدولة الاغتراب الهدية والمؤنة ، راكوبة صغيرة لفت إنتباهي زحمةُ الناس حولها فتبعتهم ، رجلٌ يبيعُ (الكجيك) إنتظرتُ دوري أمامة ميزان وأسماك تتدلى من سقف الراكوبة كانت أسماك ضخمة تنضحُ زيتاً من حرارة الشمسِ سألته من أين تأتون بها فأجاب من جنوب السودان عبر اللواري ، ويبيعونها بالرطل ونصف الرطل وما دنى من الأوزان ولم تكن رخيصة فى سعرها فما أطعم تقلية (الكجيك) مع عصيدة الُدخن و ما أمتع (الويكاب) بالسمن مع عصيدة ود أحمد .
أخذ أبى غيلولة بعد الافطار الدسم مع (حسن أحمد) وتشاغلت أنا بصحيفة أغالب التثاءُب على كرسي من تأثير الهواء البارد عبر فتحات البرندة الواسعة لنعود الى الحلة قبيل صلاة العصر بعد يومٍ ظل باقٍ فى الذاكرة منذ اكثر من ثلاثة عُقُود . فنضّر الله وجه أهلنا بالمسلمية سودانٌ مُصغر كلة إلفه و وئام .
الجمعة ٩/ يوليو ٢٠٢٠م
The post السودان: العيكورة يكتب: سوق المسلمية appeared first on الانتباهة أون لاين.