عام ونيف منذ سقوط المخلوع البشير وانتصار الثورة السودانية، بيد أن كل المشاهد الثورية المسدولة في ذاكرة المجد الذي يزهو به صُناع الثورة، لا زالت تتخطفها عاصفة الإحباطات السوداء، ولا زال المسرح السياسي يعج بالتناقضات والتشكيك و (حريق) الشخوص وانفجار حدة خطاب التعبئة والتعبئة المضادة. و بين رهق استكمال أهداف الثورة وأهمية المحافظة على استقرار الفترة الانتقالية ، تتجلى أزمة إدارة الدولة بوضوح أمام المواطنيين الذين انتظروا التغيير ردحاً من الزمان ليهُش عن وجوههم غبار الفقر الكثيف وضنك العيش وضبابية الحياة والمصير. إلا أن الحياة التي تحولت برمتها إلى عملية تجاذبات حادة بين الثورة والثورة المضادة ، قذفت بإنسان هذا البلد بداخل مستنقعات الخوف من المجهول، وأفقدته أي مزايا استثنائية يدخرها لمواجهة الصعاب بصبر وعزيمة لا تلين، وهاهي خشبة مسرح الأحداث اليومية تتحول بين ليلة وضحاها إلى بانوراما تتجمع في حواشها كل فنون الرهق و الوجل والاحتراب اللا نهائي .
عيشة ضنك
يواجه المواطن السوداني جملة من الصعوبات الاقتصادية التي كادت أن تبدد أحلامه باستشراف المستقبل، حيث تفاقمت خلال السنة الماضية الأزمات الاقتصادية الخانقة، وتهاوت العملة الوطنية، وتضاعفت بنحو ثلاث مرات أسعار السلع الاستهلاكية ، هذا فضلاً عن ندرتها أو انعدامها أحياناً، وبدلاً عن غياب طوابير الخبز والوقود حسبما كان يتوقع المواطن بعد سقوط النظام، تمددت الطوابير للدرجة التي كادت أن تصبح عصية على الحل. في غضون هذا المشهد تمضي تبريرات الحكومة الانتقالية بأنها ورثت خراباً هائلاً في موازين الدولة واحتياطاتها الاستراتيجية، وأنها اعتكفت على وضع برامج عمل طموحة لتغيير الخارطة القديمة التي انتهجها النظام البائد وبدد بها موارد البلاد. وبالطبع بذلت الحكومة الانتقالية جهوداً كبيرة في إعادة السودان إلى أحضان المجتمع الدولي بغية تلقي الدعم اللازم للفترة الانتقالية، بجانب ضرورة رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للارهاب والذي يمثل شرطاً ضرورياً أمام تعافي الاقتصاد الوطني. كذلك قامت السلطة الانتقالية بمعالجة هيكل الرواتب لموظفي وعمال القطاع الحكومي مع ما يتماشى مع أوضاع السوق ، وأيضاً وضعت حزمة من البرامج الخاصة بتوزيع السلع الاستهلاكية مثل برنامج (سلعتي) ومحفظة تمويل ودعم الشرائح الضعيفة. تفاعل جمهور الثورة مع الحكومة الانتقالية ولم يفقد صبره اتجاهها حتى الآن، بل حرص على دعمها وتقويمها عبر آخر مليونية شهدتها الشوارع في 30 يونيو المنصرم. بالمقابل ظل أنصار ما يعرف بالثورة المضادة يكيلون النقد والتقريع والشتائم أحيانا للحكومة الانتقالية ويصفونها بالفشل في إدارة الدولة، وقد نشط أنصار الثورة المضادة في التحشيد ضد الحكومة الانتقالية تحت شعارات معاش الناس والاختناق الاقتصادي، منوهين بأن الأوضاع في زمن المخلوع البشير كانت أفضل من بعد الثورة، دون أن يجتهدوا في أية توصيفات أخرى للحالة الاقتصادية بغير أنها نتاج لفشل كل الطاقم الحكومي الذي يحكم الفترة الانتقالية الحالية.
إزالة التمكين وضده
إحدى الروافع التي تعتمد عليها الحكومة الانتقالية للبقاء في مقام رفيع في فضاءات الثورة، هو الأعمال والأنشطة التي تقوم بها لجنة إزالة التمكين ومحاربة الفساد واسترداد الأموال المنهوبة. وبذلت اللجنة جهود جبارة في الكشف عن أوكار ومنصات الفساد في النظام البائد، وهو الأمر الذي ساهم في الإبقاء على التطلعات الثورية حيَة لا تموت، وانعكس ذلك جلياً في إفشال أنشطة العناصر المحسوبة على النظام البائد وتعرية أية إدعاءات تحوم حول القلق على معاش الناس ومستقبل البلاد، بحسبان أن التقارير التي توردها لجنة إزالة التمكين تحكي عن فساد كبير أضر باقتصاديات البلاد . وتعمل اللجنة على استرداد الأموال وقطع الأراضي والشركات التي تحصل عليها مسؤولون في النظام المعزول بطرق غير شرعية، وتملك صلاحية إنهاء خدمات العاملين بمؤسسات الدولة حال تأكدها من حصولهم على المناصب بناء على الولاء السياسي. وفي آخر مؤتمر صحافي لها أعلنت اللجنة عن استرداد 440 قطعة أرض من قادة في نظام الرئيس المعزول عمر البشير، بينهم نائبه الأول وزوجته ومدير جهاز الأمن السابق، كما قررت إنهاء خدمة وكلاء نيابة وقادة في حكومات ولايتي الخرطوم وغرب دارفور وعاملين في مجلس السيادة. وتفاعلت الوسائط الإعلامية المختلفة في السودان مع التقارير والقرارات التي تكشف عنها لجنة إزالة التمكين للدرجة التي جعلت من مجرد الإعلان عن مؤتمر صحافي للجنة كفيل بأن يُحظى بمتابعة غير مبسوقة من قبل المواطنيين، ويعقبه مباشرةً تعقيبات وتعليقات تشتعل بها منصات التواصل الاجتماعي. بالمقابل اشتهر أنصار النظام المعزول أوساط جمهور الثورة بـ(الصراخ) أعقاب أية قرارات خاصة باللجنة، للدرجة التي بدأت تظهر في محاولات تعبئة مضادة في شكل تظاهرات متفرقة يحاول تنظيمها أنصار النظام المخلوع رغم سيادة قانون الطوارئ الصحية طيلة الفترة الماضية. وحتى الآن لم تظهر أية بوادر اعتراف أو إعلان ندم على كل الممارسات الفاسدة التي تعلن عنها لجنة إزالة التمكين، بل على العكس انبرت عدة منصات إعلامية وباعتراف عضو اللجنة محمد الفكي سليمان ، في الدفاع المستميت عن منسوبيهم وإبرازهم بصفات التقاة الميامين، وبالمقابل تنشط منصاتهم في إثبات التشكيك في نوايا أعضاء اللجنة واتهامهم بالفساد وانتهاج مسلك التشفي والانتقام وتصفية الحسابات السياسية عبر إشانة السمعة.
محاكمات رموز النظام
المطالبة بمحاكمة رموز النظام البائد ظلت هي إحدى المطالب الرئيسية في الثورة السودانية، وأضحت تمثل “التيرموميتر” الذي يمكن أن يُقاس عليه مدى مصداقية وجدية الحكومة الانتقالية في تنفيذ مطالب الثورة. ويرى جمهور الثورة بأن النظام البائد شهد جملة من الانتهاكات والجرائم التي لا يمكن أن تسقط بالتقادم أو تسقط عن طريق التسوية السياسية، ويتمسك الثوار بضرورة محاكمة رموز النظام باعتبار أنها تمثل المدخل الحقيقي لترسيخ مبدأ العدالة الانتقالية ووضع اللبنة الأولى في دولة القانون. وبالفعل قامت السلطات باعتقال عدد من قيادات النظام البائد ووضعتهم في السجون، إلا أن تأخر محاكمتهم أربك المشهد السياسي وساهم في تعزيز النشاط المضاد من قبل أنصار النظام المخلوع بحسبان أن عدم محاكمتهم يعني اعتقالهم سياسياً دون وجود تهمة تستحق الاعتقال. كما أن عدم المحاكمة الفورية ترتبت عليها كثير من صرف النظر عن استصدار أوامر قبض في حق آخرين يمارسون حياتهم بحرية وينشطون في الحراك ضد الفترة الانتقالية. وعلى الرغم من أن تصريحات النائب العام الأخيرة أكدت على اكتمال كل الملفات القانونية الخاصة ببدء المحاكمات، إلا أن عدم تعاون المتهمون مع المحكمة يساعد في إبطاء المحاكمات نفسها، هذا فضلاً عن بعض من قادة النظام البائد هم مطلوبون لدى المحكمة الجنائية الدولية، وهو الأمر الذي يتطلب قرار سياسي يفصل في الأمر . وتتعرض الحكومة الانتقالية بسبب المعتقلين من أنصار النظام البائد لحملات مناهضة واسعة من قبل أسر المتهمين وذلك بسبب عدم وجود بينة قانونية تقود إلى اعتقالهم، وبالمقابل يشكل أنصار الثورة ضغطاً إعلامياً عالياً على الحكومة بضرورة محاسبة عناصر النظام البائد حفاظاً على استقرار الفترة الانتقالية والتأكيد على هيبة وجدية الثورة السودانية.
شهداء الثورة
ظلت قضية شهداء الثورة السودانية هي القضية المركزية التي يلتف حولها كل جمهور الثورة، إلا أن هذه القضية تواجه تعقيدات هائلة خصوصاً في ما يتعلق بشهداء مجزرة فض الاعتصام والشهداء الذين سقطوا بعد ذلك بعد انتصار الثورة. وقد قامت الوثيقة الدستورية التي تم توقيعها بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير من الأساس على ضرورة تشكيل لجنة وطنية مستقلة لمباشرة التحقيق في جريمة فض الاعتصام برئاسة الأستاذ نبيل أديب. وهاهو العام الأول يقترب من دورته الأولى منذ تشكيل الحكومة الانتقالية ولم يتم الكشف عن تحقيق اللجنة حتى الآن، وهو ذات الأمر الذي ألقى بكثير من الظلال السالبة على العلاقة بين المكون العسكري والمدني في الحكومة الانتقالية، وألقى بظلال سالبة على درجات التفاعل مع الحكومة من قبل جمهور الثورة نفسها، وعلى الرغم من المطالبات المتعددة التي ترفعها منظمة أسر الشهداء ويلتف حولها لجان المقاومة وتجمع المهنيين وعدد من القوى السياسية ، إلا أن القضية تمثل الآن الاختبار الحقيقي أمام الحكومة الانتقالية ومدى التزامها بأهداف الثورة، بل ترسم القضية أهم ملامح الاستقرار وعدم الاستقرار لمجمل الفترة الانتقالية، وهو ذات الأمر الذي يجعل المشهد السياسي الآن مثل بانوراما حُبلى بكل التناقضات والاحتمالات وجميع السيناريوهات.
عبدالناصر الحاج
صحيفة الجريدة