غير مصنف

السودان: العيكورة يكتب: عندما كان القِرشُ قِرشاً

الانتباهة اون لاين موقع اخباري شامل

بقلم: صبري محمد علي (العيكورة)

كانت أمِي تمُد اليّ كُباية شاهي باللبن وهى غاضبة لأننى تأخرت فى هذا الصباح عن النهُوض باكراً للجزارة و علىّ أن أحتسي الشاهى باللقيمات سريعاً لألحق بالمدرسة الابتدائية الشرقيه أظنها الآن هى الثانوية للبنات كُنت مُتضايقاً من غضب أمى علىّ لسنا كعيال هذه الأيام فكُنا حسّاسين لزعلهم كما تُسعدُنا الشكّرة و يُطربنا المديح أظنها كانت السنة الرابعة إبتدائية العام الذى غرق فيه أبناء عبد الرحمن ود التاي الثلاثة فى يوم واحد عند إفتتاح قُبّة الشيخ طه البطحانى كنا فى سنهم حين ملأ الدراويش و اللّواري المكان من القبّه و حتى البحر شرقاً لا أعلم تحديداً ما حدث ولكن أذكر أن الناس كلهم كانوا يَجرُون ناحية البَحَر بعد أن صاح أحد الدراويش أن الشيخ طه قدّ (فجّ) البَحر أذكُر جيداً دخلنا عُباب النيل مع الخائضين ثم عُدنا ولم يكن (فَجّاً) وإنما كان إنحسارهُ صيفاً كعادته فتخيلهُ الدرويش كرامةً للشيخ . وتفَقْد الناسُ أبناء عُمُومتنا بعد فترة ليكتشفوا صاعقة الخبر ولن أنسى كل تفاصيلها المُؤلمة رغم صِغر سنْنَا آنذاك . جعلهُم اللهُ شُفعاء لوالديهم وجَمعهُم بهم فى الفردوسِ الأعلى من الجَنْة .
جرت العادة أن تُوقظُنى أمي باكراً قُبيل المدرسة لأصلى ثم أحمل (القفّة) بعد أن تُملى عليّ ما تُريد شراؤهُ وغالباً كان محفُوظاً فلم يكُن هُنالك رغدُ عيشٍ ولا خيارات واسعة رُبُع كيلو من اللحم وبصل و(خُدرة) نُطلقُها على الملوخية وأعيد لها ما تبقى من النُقُود و غالباً لا يتعدي المبلغ العشرة قروش كافيه أن أذهبُ بها للجزارة فأشتري منهاُ رُبع كيلو لحم بقر بأربعة قُرُوش والضأنُ كان بسته قُرُوش وهذا كان سُر زعل أمي يومها لأنني تأخرتُ فلم أجد إلاّ لحْم الضأن مما أحدث خللاً فى ميزانية ذلك اليوم .
الغُرفة (الورّانية) من بيت الجالُوصْ كانت هى بمثابة غُرفة المعيشة والمطبخ والمَخْزن بها شوالات العيش وخمّارة العجين والكانُون والبابُور وعنقريب صغير لغسيل العدة ومنْضَدة طويله مُرتفعة نوعاً ما ترتقيها الكبابى والبراريد وصُحُون الصيني وكلّ ما يُخْشى عليه من قفزات (الدِيك) الغير مَحْسُوبة و طشتُ لغسِيل الأوانى يظلُ مُرابطاً خلف الباب يُستخدم عند الحاجة ثم يُعاد لوضعه هى كانت حياتُنا ببساطة ، الميزانية اليومية للصباح بالجزارة مَحْسُوبة وعند المغرب أيضاً مَحْسُوبه ، الأمهات كُنّ يُدبرنْ المعيشة حَدّ الإدهاش رطل السُكْر بسبعة قروش ونصف و أوقية الشاي بقرش ونصف وعلبة الكبريت كانت بتعريفة هى نصفُ القِرش كانت تكفى هذه المُؤنّه ليومين أو ثلاثة شُرب الشاهِى هو عِنْد الصَباح فقط ولكنهُم كانُوا يَسْمحُون لنا فى رمضان بالشاهى والقهوة عقب الافطار عندما بدأنا نصومُ . لا أظن أنْ الكُتلة النقدية التى كانت تتداولها القرية آنذاك فى اليوم بين الجزارة والدكاكين تتجاوز الخَمسُون جُنيهاً تُوفر للناس قُوتَهُم ، ففى كُل بيتٍ كانت الأغنام وأحواض الخُضار و لم تَعْرف شوارع (العيكورة ) بائعى اللبن حينها ولا الكهرباء ، فبين كُل بيتٍ وبيتٍ زريبة من أبقار الميسورين أما أفقر الناس فلديهٌم أغنام الماعز . و(الرتاين) كانت لدى الميسورين من التجار
الجزارة أو السُوق الصباحى كان رائعاً بسيطاً لم يتغير موقعه منذ أن نشأنا والى يومنا
غُرف صغيرة أمام كُل واحدة منها (طربيزة) وبُرمة عود لتكسير اللحم تراصت من الجهة الغربية والجنوبية و أمامهما يتوزع فريشة الخُضار على الأرض وعلى الجهة الشرقية بعضٌ من بائعات الطعمية واللقيمات ، كُنّا نُحدثُ ضجيجاً وجَلَبه أمام طربيزة اللحم فكلُ يُريد أن يبتاع قبل الآخر ليلحق بطابُور المدرسة كان هذا الازعاج نُوزعهُ على كل من كانت عليه ذبيحة الثور وقد كان الجزارون يُدّورونها بينهُم بالتراضى ، أما (الكمُونية) فسعرُها كان ثلاثة قروش للكُوم الكبير كان كافياً لفرك حَلّة (الويّكة) أو البامية بالورق ، كُلهم أهلُنا يتحملُون شقاواتنا وصياحنا عند التسوّق، النمرود أحمد ود حمزة وشقيقة محمد لهما جزارة وزراعة و إبراهيم ود أبوروف كانت له جزارة وزراعة بَحَر ، وأحمد الضو لهُ جزارة و حوّاشة ، حاج ياسين وأولاده كانت لهم جزارة وسَعيّة وجِمال وأغنام وزرائب ، ود رحمة كان له خُضار وصوتٌ رخيم يُروجُ لخُضاره بعبارته الشهيرة (تعال يا عشايا النملِح ليك) ، عبد السلام ود يوسف رجلٌ فارع القامة لا يُري بالطاقية مُطلقاُ إلا وفوقها العُمامة العاليه يُناديك وهو يهُزُ رُبط الملوخية (الرّخا عَمَار البِلاد و تغرق شاحنة) أحمد ود العوض يكونُ دوماً مشغُولاً بسيجارته ينفُضُها مع ترتيب أكوام الطماطم يُساعدهُ أولاده خفيفُ مقاطعُ الحُرُوف لا تسْتقرٌ على شفتيه الكلمة (خمسة قروش ، خمسة قروش) يُكرّرُها ، أولاد (القِدْ) عبد الباقى وعبد العزيز حركتُهُم ماهلة و لهم خُضار وشرائحٌ من القرع ، على ود أبوروف كان رجلاً تالياً للقرآن لدية دُكان مُجاور للجزارة يأتي بالبصل و(الويكة) و لا يُحبُ الغَلَبة من الاطفال صارمُ قَسمَات الوَجّه .

قبل ما أنسي :ــــ

من يُصدقُ حتى أواخر السبعينات أن ميزانية الأُسْرة بالريف كانت لا تتجاوز الستة جُنيهات فى الشهرِ تنعم فيها بالبحبوحة والسَعة ، حدثنى والدى رحمة الله عليه أنه كان سائقاً بالمؤسسة العامة لأعمال الريّ والحفريات فى مُنتصف الستينيات براتب شهري قدرهُ أربعة جُنيهاتٌ ونِصْف مع العمل الإضافى كانت تتجاوز السّبعة جُنيهات قال لى كُنّا نُعدُ من أثرياءِ القوم عُرض عليه العمل بالسُعُودية يومها فرفض .

الأربعاء ٢٧/ مايو ٢٠٢٠م

The post السودان: العيكورة يكتب: عندما كان القِرشُ قِرشاً appeared first on الانتباهة أون لاين.

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى